خلوني ابكي من روائع فهد بن سعيد قبل اعتزاله رحمه الله قدمها في السبعينات الميلادية وهي خلاصة أنغام عميد الفن النجدي عبدالله السلوم ومن كلمات الشاعر محمد بن ناصر القحطاني.
قديماً كان الحديث بين الأهل والأحبة ذا شجون، ويتميز بالشفافية، خاصة إذا ارتبط ذلك الحديث بحياة العاشق، حينما ينثر ما في جوفه من صرخة الحب. والجميع من حوله يسألون: ماذا دهاك لماذا أنت طريح الفراش؟. وهذه الحالة قد تعطي دلالة واضحة على مدى المرونة اجتماعيا في ذلك الوقت البرىء الذي يقبل فيه الأهل فكرة الحب. التناغم في الكلمة أعطى مجالا لرؤيتها نغميا وتقديمها بالصورة المنطقية لحنيا لتكون ردة فعل تبوح بكل شيء.. "خلوني أبكي\".. أتت طبيعية كجواب لعزلة العاشق ورغبته في الابتعاد لإعطاء نفسه فرصة لتأمل ما يحدث له بفعل الحب.
خلوني ابكي يا هلي من غثا البال
خلوني أبكي وأتركوني الحالي
تبكي عيوني لا طرى اللي على البال
ناس مضى لي في هواهم ليالي
المؤكد أن هذه الأعمال الشعبية ذات كلمات صعبة، وصعوبتها تكمن في الإغراق في اللهجة النجدية بتراكيبها اللفظية التي قد تستعصي على الألحان السهلة الرقيقة، لكن فهد بن سعيد تمكن من تفكيك هذه الجمل وتقديمها كما هي من خلال استغلال أجراسها الموسيقية واختيار الإيقاع المناسب بواسطة الملحن عبدالله السلوم. هذا العمل يؤخذ على إيقاع \"الرومبا\" والبعض يقدمه على\"العربي" وهي نفس الفكرة في أغنية خلاص من حبكم يا زين عزلنا ورغم اختلاف الإيقاعين إلا أن الارتكاز والإحساس لا يختلفان عن بعضهما البعض.
في الليل قلبي للهواجيس مدهال
يلعبي الهاجوس في كل حالي
وحيد دمعي فوق الاوجان همال
ولا يلام اللي بكى فقد غالي
رثاء للحال والعشق والصبر، رغم اختلافها عن المرثيات الأخرى إلا أنها أتت بهذا الشكل الشخصي، البكاء وسيلة أخرى للابتعاد عن الوحدة التي تسبب بها فقدان الحبيب، وبسبب الهواجس التي يستعرض فيها الشعراء كل همومهم وآلامهم. هي حالة الأحبة ورثائهم لأنفسهم، وقد اصطبغت بالروح الكلاسيكية التي تكمن في اختيار الأنغام المناسبة لإيصال هذه التفعيلات والأجراس الموسيقية. فهد بن سعيد نجح في قراءة هذه الآلام واحتضان أحاسيسها بالرؤية الموسيقية الملائمة للمعاناة والوحدة التي عاشها. في قراءة هذه الأغنية الكلاسيكية تتسابق الكلمات مع اللحن النجدي الأصيل، وتمتزج المعاناة بلذة الحب، ويشم من ثنايا حروفها رائحة بيوت الطين في الرياض القديمة.
قالوا لي اصبر والصبر فيه حلال
وانا الصبر مالي عليه احتمالي
في الحال حالي يا هلي صار في حال
سبحان منهو للمخاليق والي
هناك طاقة فنية تخرج حين قراءة القصائد النبطية المتعاطية مع المجتمع وثقافته المتوارثة اجتماعيا ولغويا، وتكمن هذه الطاقة في بلورة هذه الأجراس الموسيقية وإعطائها فرصة للإبداع الغنائي وتنغيمها اللحني لتتمكن من فرّد قدراتها على سطح الأغنية في دلائل واضحة لمعاني الكلمة وتميزها..
راعي الهوى لو ينقل الحمل له شال
يقوله اللي مادرى وش جرالي
إنها سخرية غير العارفين بما يجري للعاشق المعذب!. في ذلك الوقت كانت الأغنية تتمحور في غناء القصائد النبطية ومنها النبطية المعربة، وقد جاءت نهضة الفن الغنائي في نجد ابتداء من تلك الفترة بفضل تكوين قوالب الأغنية النجدية في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات الميلادية على يد مجموعة من الفنانين المميزين الذين أعطوا نتاجاً غنائياً مميزاً، كان من أبرزهم فهد بن سعيد الذي أبهر المتعطشين آنذاك بأغانيه وألحانه الملهمة.
هناك الكثير من الأعمال الذهبية قدمها ذلك الجيل الذهبي للأغنية الشعبية الكلاسيكية بتنوع وتغير القوالب الفنية حسب الرؤية والإحساس، وهو ما يعطي فكرة وقيمة لأغنية \"خلوني ابكي\" لثراها لغويا وقدراتها نغميا على الاستمرار والبروز كلما زاد زمنها تكبر في عالم الفن الكلاسيكي. هي رثاء بأفكار جديدة في عالم الأغنية تختلف عن ما نسمعه في الكثير من المرثيات ولكنها تتميز بعمقها اللغوي والسِرّ في إخفاء بعض تفاصيلها اجتماعيا، هم هكذا يعيشون بروعة الأحبة، وتأتي مثل تلك الأعمال لتقرأ لنا ذلك المجتمع الرائع في كل تفاصيله. فهد بن سعيد \"رحمه الله\" كان حديث الأجيال المستمر، وقدم لنا روائع فنية لا تموت من مثل \"خلوني ابكي\" التي طرحها بالة العّود بمرافقة العميد عبدالله السلوم كعازف كمنجة الذي لقب ب \"وحيد الجزيرة\" آنذاك