خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ : عمر السبيل
بتاريخ : 23- 3-1422هـ
والتي تحدث فيها فضيلته عن : الحث على الزواج وتيسير أموره
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، وأشهد ألا إله ألا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى والخليل المجتبى صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى وبدور الدجى ومن سار على هديهم واقتفى، أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فإن في تقواه السعادة في الدنيا، والفلاح في الأخرى، فاتقوا الله تعالى في أنفسكم وأهليكم وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1].
عباد الله:
السعادة في هذه الحياة مطلب عظيم، ومقصد جليل، يسعى إليها كل حي، ينشدها بكل وسيلة، ويطلبها في كل سبيل، غير أن السعادة والطمأنينة في هذه الحياة لا تحصل إلا بما شرع الله عز وجل لعباده، وما أرشدهم إليه من طاعته ومرضاته، والأخذ بما وضع الحق جل وعلا من سنن، وما شرع من أسباب.
وإن مما شرع الله عز وجل من أسباب السعادة وجَبَل النفوس عليه الارتباط برباط الزوجية، فإنه من أعظم أسباب السعادة في هذه الحياة، وحصول الطمأنينة والسكينة، وهدوء البال وراحة النفس، متى ما تحقق الوئام بين الزوجين، وكُتب التوفيق لهما، ولذا امتن الله تعالى على عباده بهذه النعمة فقال سبحانه: وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
وفي الحديث عند الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح أن رسول الله قال: ((أربع من السعادة)) وعدّ منها ((الزوجة الصالحة))، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)).
فالنكاح من سنن المرسلين، وهدي الصالحين، وقد أمر به ربنا جل وعلا في كتابه بقوله: فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء: 3]، كما رغَّب فيه سيد المرسلين بفعله، وحث عليه بقوله: ((وأتزوج النساء، فمن رَغِب عن سنتي فليس مني))، ووجه شباب الأمة إلى المبادرة بالزواج حينما يجد أحدهم القدرة على تحمل المسؤولية، والقيام بشؤون الحياة الزوجية، حيث قال : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) رواه البخاري ومسلم.
وأرشد مريد النكاح إلى اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين القويم، والخلق الكريم، والمنشأ الطيب، الودود الولود، فقال : ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) أخرجاه في الصحيحين.
وروى أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاثر بكم الأمم)).
وما عناية رسول الهدى وحثه على اختيار المرأة الصالحة إلا لما يؤمل منها من قيام بالحقوق الزوجية، ورعاية شؤون الزوج، وتربية الأولاد، وبناء الأسرة على أسس من التقوى والإيمان.
أما حين تكون الزوجة ضعيفة الديانة، سيئة الخُلُق، فإنه لا يؤمَّل منها بناء أسرة صالحة، ولا يتحقق بسببها هناءٌ ولا سعادة، بل قد تكون سبب عناء وبلاء على الزوج، ولذا جاء التحذير من الانخداع بجمال المرأة الظاهر، دون نظر إلى الجمال الحقيقي، والمتمثل في الدين ومكارم الأخلاق، وطيب المنشأ، فقد رُوي عنه قوله: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين)) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.
فما هذه التوجيهات النبوية -يا عباد الله- إلا مظهر من مظاهر عناية الإسلام بأمر النكاح، وتوجيه الزوج نحو ما يحقق له حياة هنيئة، وسعادة زوجية.
أما فيما يتعلق بالزوجة فإن من عناية الإسلام بأمرها ما وجه إليه أولياء أمور النساء من ترغيبهن في النكاح، والحرص على تزويجهن بالأكفاء، وقبول الخاطب إذا خطبهن، والحذر من ردّه متى كان صالحًا في دينه، مستقيمًا في أخلاقه، فقد جعل رسول الله ذلك هو المعيار للقبول أو الردّ، دون اعتبار لغير ذلك من معايير تواطأت عليها بعض المجتمعات، وتعارف عليها بعض الناس، مما لا أصل له في دين الإسلام، بل ربما ترتب عليها من المفاسد والأضرار ما لا يعلمه إلا الله، ولذا قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه.
وإن مما يُؤسَى له -يا عباد الله- أن يَعمَد بعض الأولياء إلى عَضْل من تحت ولايته من النساء، من بنات وأخوات، لأطماع مادية، أو لعادات اجتماعية، لا أصل لها في شريعة الإسلام، فيلحق بمولياته من عظيم الضرر، وشديد الحسرة والألم ما الله به عليم.
ألا يتقي الله أولئك الأولياء بهذا الصنيع الذي يستوجب غضب الله تعالى عليهم، ومساءلتهم عنه يوم القيامة، فقد قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
أيها المسلمون:
لقد شرع الله عز وجل النكاح لمصالح الخَلْق، وعمارة هذا الكون، ففي النكاح مصالح عظمى، ومنافع كبرى، وإنه بقدر عناية المجتمع وحرص الأمة على أمر النكاح، والسعي في تزويج الناشئة، وتسهيل سبل النكاح، وتيسير أسبابه، يتحقق للأمة ما تُؤمِّل من سعادة أبنائها، وحصول الأمن والطمأنينة في مجتمعاتها.
غير أن الواقع المؤلم أن كثيرًا من المجتمعات المسلمة اليوم قد ابتعدت عن هدي الإسلام، وتشريعاته الداعية إلى تسهيل سبل النكاح، وتيسير أسبابه، حيث يغالي البعض في طلب المهور العالية، والتكاليف الباهظة، ويسرفون في إقامة الولائم والحفلات، ويبذلون في سبيل ذلك الأموال الطائلة، التي تبدد مال الأغنياء وتثقل كاهل الفقراء، مما كان عائقًا لكثير من الشباب عن الإقدام على الزواج، لعجزهم عن أعبائه وتكاليفه، ومما ترتب عليه أيضًا حرمان كثير من الفتيات عن حقهن المشروع في الزواج، وعضلهن عن النكاح بالأكفاء، فكم في المجتمعات المسلمة -يا عباد الله- من فتيان وفتيات قد حيل بينهم وبين ما جبلوا عليه من الرغبة في النكاح، وبناء الأسرة، والعيش تحت ظلها الوارف، بسبب تكاليف الزواج الباهظة، أو بسبب ما للعوائق من العادات والتقاليد الاجتماعية المخالفة لهدي الإسلام وتعاليمه، مما أدى إلى مفاسد وأضرار عظمى في بعض المجتمعات المسلمة، وانحراف بعض الناشئة عن طريق العفاف والفضيلة.
ألا فلتتقوا الله -عباد الله- ولتتضافر منكم الجهود، ولا سيما من ذوي التأثير في المجتمع من العلماء والوجهاء، والمصلحين والمفكرين، وحملة الأقلام ورجال الإعلام، في الحث على تسهيل أمور النكاح، وتيسير أسبابه ووسائله، ونشر الوعي العام بذلك في المجتمعات المسلمة، تحقيقًا لمصالح الأمة، ودرءًا للأضرار والأخطار عنها، فقد قال الله عز وجل: وَأَنْكِحُواْ ٱلأيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32].
ولتعلموا أن أقوى الأسباب في حلول البركة في الزواج وحصول التوفيق فيه صلاح الزوجين واستقامتهما على طاعة الله ومرضاته، وتحليهما بآداب الإسلام وشمائله، وتيسير مؤونة النكاح وتكاليفه، والبعد عن مظاهر الإسراف فيه، فذلك كله من أقوى العوامل، وأجدى الوسائل في حصول السعادة والتوفيق في الحياة الزوجية، فقد قال في معرض التوجيه للأمة للأخذ بأسباب البركة والتوفيق في النكاح: ((أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)) رواه الإمام أحمد وغيره، وروى أهل السنن عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم به رسول الله ).
فاتقوا الله عباد الله، ولتعملوا على العناية بتزويج الناشئة، وتيسير أسباب النكاح عليهم، كي يقدموا عليه بارتياح وطمأنينة، ويقيموا أُسرًا صالحة، تكون لبنة عاملة في الأمة، إذ بهذا تصلح المجتمعات وتسعد الأمة، ويتحقق لها ما تؤمِّل من عزّ أبنائها، ورقي مجتمعاتها، واستقامة شؤونها وصلاح أحوالها.
ألا وصلوا -عباد الله- على نبي الرحمة والهدى اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين. اللهم احفظ إمامنا بحفظك، وأيده بتأييدك، وأعز به دينك، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك، يا رب العالمين، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، المستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي الشيشان وكشمير وغيرها من سائر الأوطان، اللهم كن لهم عونا وظهيرا، وهيئ لهم من لدنك وليا ونصيرا. اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وقوي عزائمهم، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر أنا قليل أدبرهم، واغفر لموتاهم، واشف مرضاهم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم عليك باليهود المعتدين، وسائر الكفرة الظالمين، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم وشتت شملهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .